أُرسل له مازحة سؤالا كررته مرات كثيرة على مسمعه
"هل أستقيل من المدرسة؟"
ويمر على خاطري طالبة الثانوية التي امتلأت بالثناء على شرحها لزميلاتها، وتقدمها للشرح بدلا عن معلمتها، وكأنني بتلك الغبطة التي كانت تجتاح قلبها لتحلق بخيالها إلى المستقبل، قائلة:" يوما ما سأكون معلمة حقا!"
وتمضي السنوات ويتحقق الحلم الذي ما لبث إلا أن بدّل عباءته الوردية فأضحت مزيجا من ألوان التعب والإرهاق.
وكم تساءلت ما الذي يجعل المعلم رهين الصدمة وهو في ميدانه العظيم؟ حتى أرتني "الخبرة" صنوفا من المنغصات تطل بوجهها كل صباح لتحيي معلما لم تسعفه أنفاس الصباح ليريح صدره من تعب الأيام.
وأنا أعيش هذه الأيام بعيدا عن مدرستي، أستذكر تلك الأوقات التي عدت فيها غاضبة وعازمة على الكتابة لمجتمع يهدم جيلا وتعليما دون شعور، فيصدني الاشتغال والجري عن هذه البغية.
وكأن هذه الرغبة في الكتابة بدأت تتسلل إليّ من جديد رغم البعد، فعسى الله يفتح بيني وبين الحق لعل قلبا يعي ويتدارك!
#يتبع
٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠
أنظر إلى الصورة طويلا في هاتفي، كانت يدي التي تمتد لتربت على طالب يبكي لا يريد القدوم إلى المدرسة، وأهمس لنفسي: أفهم ما تشعر به!
يتردد المعلم كثيرا عن الحديث عن واقعه لأنه سيواجه مجتمعا وأصنافا من البشر لا يتسع لهجومهم صدرُه.
منهم الذين يعششون في السطحية فيصرخون:" إن لم تعجبك الوظيفة دعها لغيرك!"، فلا يرون التعليم إلا وظيفة جالبة للمال، ينبغي على الفائز بها أن يأخذ راتبه وهو صامت.
وهذا المنطق العجيب رأيته اليوم في كلام أحدهم وهو يقول لطالب يذكّر بحقوقهم:" إن لم يناسبك الوضع، دع المقعد لطالب آخر لم يقبل"!
وهذه واحدة من المعضلات التي يتعثر بها الإصلاح، أن يُنظر إلى المُصلح بعين الريبة ويُنبز بالجحود وعدم الشكر، فتنحرف القضية عن مسارها؛ فبدلا من تقويم الخطأ، يُرجم المُصلِح.
وأنا أشد على أيدي المعلمين، وأذكرهم أنه لا يوجد متسع للتردد والخوف من سهام المتربصين، لأن التعليم بات عندنا على شفا حفرة من الانهيار.
وإن جئنا لوصف أساس البلاء وأصله في مدارسنا، فلن أبدأ بالمناهج وتخبط القرارات -وهي من أصناف البلاء- وإنما بهيبة المعلم التي طُمست، وباحترامه الذي هُجر، حتى ليصيبني العجب من طلاب صغار ينتقصون من معلمتهم، بل ويصل ببعضهم أن يلقي الشتائم ويصرخ ولا يبالي!
وللأسف، لا يوجد سر وراء هذا السلوك، بل هو مما يُجهر به في كثير من البيوت دون وعي بالمصير.
فكم من لسان أدمنت الانتقاص من المعلم أمام الأبناء، بل وأشركتهم في الانتقاد الذي قد يخالطه الشتم.
وكم من كلمة في برنامج ألقت النكت والاستهانة بالمعلم
حتى تشبّع هذا الجيل بهذه النظرات نحو المعلم، فلم يعد يلقي له بالا ولا احتراما.
ونحن إن جئنا نتمعن قليلا في ما وراء هذه الكارثة، سنجدها تقع على رأس الأبناء بل والمجتمع بأكمله، فضلا عن مخالفتها لأخلاق المسلم.
وقد رأيتُ هذا جليا في الطلاب وأخلاقهم ومستوياتهم،
فالطالب الذي يتغذى من سموم استنقاص المعلم، لن يرقى في مدارج العلم، ولن يكترث بحصة معلمه، وستعشش الاستهانة في عقله، ويُسجن في فقاعة الغرور، والعكس صحيح.
ولهذا نرى أهل العلم يبدأون كتبهم بباب آداب المعلم والمتعلم.
ولا أزعم بهذا الحديث أنه لا يوجد معلم يخطئ ويقصر، ولكن الآباء الأفذاذ -الذين يحرصون على دين أبنائهم وأخلاقهم وعلمهم- لا يجعلون خطأ المعلم علكة يلوكونها أمام أبنائهم، بل تقودهم حكمتهم إلى الدفع بالتي هي أحسن دون المساس باحترام المعلم في أذهان أبنائهم، بل وتوجيههم إن سمعوا منهم نبرة استنقاص لعلمهم أنّ هذا سيعود وباله عليهم، فضلا عن وقوعهم في إثم الغيبة واعتيادهم عليها.
فإن كنا نريد حقا أن نكون في ركب المصلحين للتعليم في مدارسنا، فلنكف ألسنتنا عن المعلم ولنذكر أبناءنا بمقامه ولنربيهم على آداب المتعلم؛ وبهذا نحوز مفتاحا ذهبيا لإصلاح الأجيال.
ميعاد الحارثية
#يتبع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق