الثلاثاء، 15 يوليو 2025

الكاتب والجن!

 تمضي هذه السنة مُثقلة بضغوطات كثيرة، فبينما يترنم الناس بإجازاتهم كنتُ أنا أعدّ الليالي خوفا ورجاء،

خوفا من عودة الدوام سريعا، ورجاء أن أجد أياما بسيطة أتنفس فيها.

وأنا أحدث زميلتي ونتواصى على الجهاد والصبر، لمعت في ذهني حقيقة أنني في دوام ل٩ أشهر متتالية ولهذا أصبحتُ عُرضة للتعب والفضفضة الكثيرة، وأنا في داخلي أوقن أنني أُحب هذا السعي، ولا أطيق الحياة من دونه، ومعي موهبة "تطليع الشغل من تحت الأرض"، والحمد لله الذي ألهمني أنّ هذا الجهاد رزق عظيم إن وعينا له، وهو فضل من الله علينا لا يُتاح لكل أحد.

دعوتُ قبل يومين بألا يُبتلى مؤمن بدراسة صيفية أكاديمية بعدما كنتُ أشجع زميلاتي على هذه الخطوة حتى يتخففن أثناء الفصل الدراسي، والحمد لله الذي نجاهن.

ولكن الجانب المنير في هذا الصيف كانت تجربة تعليم الطالبات لمادة العقيدة، وقد كان عمرهن هو العمر المثالي الذي يجعلني أفهم حقيقة هذا الجيل -الذي استوعبت لاحقا أننا كبرنا وأصبحنا لا نعرف بعض اهتماماته-.

 وكطابع حصص العقيدة، كانت حصصنا جدلية، اندهشت في بدايات المركز من جرأة الفتيات على النقاش وأحببتُ هذا كثيرا، حتى جاء ذلك اليوم،

الذي جعلني أكتب لكم هذه المذكرة -بعد انقطاع طويل ومؤسف عن الكتابة-.

كانت الحصة تمضي بسلام وقد قلتُ في نفسي:'الحمد لله موضوع اليوم سيمضي سلسلا وسننهي ما خططنا له"، حتى وقفنا على معنى كلمة "الثقلين"، وما إن عرفت الطالبات المعنى حتى تنقبت وجوههن بالحماس وتنشطت أذهانهن واستعدت كل واحدة منهن بأن تدلو بدلوها، وهذا هو دأب العمانيين، ينشطون عند أي ذكر للجن ويتوارثون هذا الأمر جيلا عن جيل.

حتى بدأت إحدى الطالبات تسرد لنا تفاصيل دقيقة عن الجن واستحضارهم وغرائبهم وأعمالهم -التي قد يجهلها الجن بأنفسهم-، فطرحت عليها سؤالي المعتاد: أنّى لكِ هذا؟!.

قالت:" فلان ذكر في رواية هذا الأمر"

وأنا المسكينة -على نياتي- حسبتها تقصد أنّه ذكر رواية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فطفقت أشرح لهن عن علم الحديث وعلم الرجال والتصحيح والتضعيف وأمثلة على الحديث الموضوع، حتى صرخن بصوت واحد:"أستاذة، تقصد رواية كتاب، قصة!"

فأخذتني الصدمة، فأخبرتها إذن ما يقوله فلان هو محض خيال!

لكن لم يعجبها الرد -وقد كانت تتحدث بكل يقين عن الأفكار التي يطرحها-، فردت:" أستاذة لكنه خرج في لقاء وذكر هذه التفاصيل مع الجن، وأنها حدثت معه حقيقة"

فسايرتها، وقلت لها عرفيني على هذا الشخص، هل هو عالم، وثقة أم من هذا الذي نأخذ منه هذه الأمور.

فأجابت بكل فخر:" هذا كاتب سعودي مشهور" وردّدت كلمة مشهور وكأنها تحمل في طياتها معاني الصدق والحق والثقة.

وفي نهاية الحوار عدنا لدرسنا الأول في العقيدة، إلى مصادر العقيدة ومرجعية المؤمن، ولكن الفتاة بقيت واجمة وكأن ذلك الحوار أساء إلى شخص مقدس تعرفه.

من هذه الحادثة، عدتُ وأنا أتأمل في حال مجتمعنا الذي يُلقي بفلذات أكباده في عالم ممتلئ بالأفكار والخزعبلات دون أن يشعر الولي بخطورة ما يملأ قلب وعقل أبنائه، ودون أن يفكر يوما أن يحاورهم ويُبين لهم المرجعية الصحيحة التي يستقون منها عقيدتهم وأفكارهم؛ فتعيش البيوت ولا هم لها إلا الأكل والشرب والملبس، مغمضة عينيها عن بوصلة الآخرة التي ترشد المؤمن إلى الصواب.

والحمد لله الذي يمنّ على بلدنا يوما بعد يوم بتكاثر المراكز الصيفية، وكثير من أهل الوعي وإن كانوا لم يتمرسوا الحوار مع أبنائهم لكنهم فضلوا أن يلحقوهم بمراتع العلم في هذه المراكز، بدلا من مصيدة الأجهزة والروايات والأفلام!


ميعاد الحارثية 

الكاتب والجن!

 تمضي هذه السنة مُثقلة بضغوطات كثيرة، فبينما يترنم الناس بإجازاتهم كنتُ أنا أعدّ الليالي خوفا ورجاء، خوفا من عودة الدوام سريعا، ورجاء أن أجد...