السبت، 12 ديسمبر 2020

يُتمٌ مفضوح

 

                             *يُتمٌ مفضوح*

خرائطُ حمراءُ تسبحُ في عينيها، تفحصتها سلمى وهي واقفةٌ أمامَ مرآتها، تذكرتْ أنها لم تترك الحاسوب منذ نهضتْ..

تمتمت لنفسها متأففة:" متى نعودُ إلى المدرسة؟ هلكنا من التعليم عن بُعد وذبلت أعيننا وقلوبنا".

قررتْ إغلاقَ كُل شيء والاستسلامَ للنوم ولكنّ قرعَ قلبها الذي شاخ طفلا أبى عليها أن ترتاح.. 

رأسها مُمتلئ بالدروس والأصوات والصور، نفضت رأسَها لعلّ شيئا من هذه المنغصات يسقط ويفكها. 

ساقتها الأفكارُ إلى تلك الليلة الظلماء عندما كانت في الصف الرابع ووجدت نفسَها فجأة مُحاطةً بالنواحِ والأنين، لم تستوعبْ جيدا ما يحدث، كانت عيونها شاخصةً تنظرُ إلى الوجوه المكلومة.. 

تحاولُ أن تلفتَ انتباه أي أحد لعله يشرح لها، "أين أمي لتحميني في حضنها من هؤلاء النسوة؟ إنهنّ يخفنني" فكرتْ بقلب طفل بلغ به الرعبُ أقصاه. 

تساقطت دموعُها سراعًا وطفقت تنادي والدتها:" أمي أمي" 

راحتِ العيون تنصبُّ عليها وتزيدها هلعًا، ألجمتها فكرةُ أنها كلما نادت أمها أكثر زاد النواحُ وكادت الأنظارُ المشفقة تلتهمها.. 

رأت من بعيد زوجةَ عمها قادمة نحوها وهي تكفكفُ الدمعَ، أمسكتْ بيدها وأدخلتها في غرفة مع بنات عمها.. 

لم يشرح لها أحدٌ أبدا ماحدث، ولم يعُدْ حضنُ أمها واختفى صوتُ أبيها، لم تجد بعد ذلك اليوم إلا نظرات الشفقة وهمسات تصفها باليتيمةِ التي مات والداها في حادث. 

مضت سنتان وما زال النداء يترددُ في غرفتها كُل يوم، كانت تتكورُ على نفسها كُل ليلة وتتذكرُ صورةَ الجنين الذي رأته في كتاب بتعليق:"جنين في بطن أمه"، كَم تمنت أن تكون مكانه! 


أيقظها من أفكارها وقعُ أقدامٍ قُرب غرفتها، أغلقت عينيها بقوة وتظاهرت بالنوم، ليست مستعدة لسماعِ الخُططِ التي تُلاحقها.. 


طلعَ الصباح وكان لابد أن تلبس سلمى لَبوسَ المجتهدِ القوي الذي تستر به هشاشتها وكوابيسها.. 

سلّمت على عمها وزوجته وتناولت طعامها بهدوء، كانت يدها ترتجفُ وهي ترى نظرات زوجة عمها التي تحاولُ أنْ تتقرب منها هذه الأيام، ولا حيلةَ لها إلا المسايرة والطاعة. 

استأذنَ العمُ للذهاب إلى العمل، رفعت سلمى عينيها ترجوه البقاءَ بلسانٍ جامدة وقلبٍ وجل. 

اقتربتْ منها زوجةُ عمها ووضعت يدَها على كتفها وهي تسألها عن ليلتها ودروسها ومذاكرتها.. 

-" ما شاء الله يا سلمى، جميع المعلمات يثنين على اجتهادك وتفوقك، يبدو لي أنكِ طالبة محبوبة من معلماتها" 

- أجابت سلمى بارتباك وصوت خفيف:" الحمد لله" 

-" لقد كبرتِ يا سلمى وأنتِ الآن في الصف السادس والحقيقة أنّ طلبات المعلمات لا تنتهي وتورطنا بهذا التعليم الإلكتروني، من أين لنا أن نوفّر لكِ ولبناتي أجهزةً وكُلّ واحدة معها دروسها وتكاليفها"

كانت سلمى واجمة تكادُ تخترقُ الصحنَ بنظرتها الثابتة الثاقبة، إنها تعرف جيدا إلى ماذا ترمي زوجة عمها.. 

-" اسمحي لي يا سلمى أنْ أأخذَ الحاسوبَ لأنّ سارة تحتاجه  لحصصها المتزامنة كل يوم"

شعرتْ سلمى بالورطة، تخيلت نفسَها في قفص يضيق عليها وهي عاجزة، تحمحمت واصطنعت ابتسامة باهتة:"لا بأس يا عمتي، بإمكان سارة أخذُ الحاسوب" 

-" لكنني أهتمُ لمصلحتكِ أيضا يا سلمى، ولا يمكنني ترككِ هكذا، ولكنْ أخبرتك عن الوضع ونحنُ الآنَ في زمن التقشف ولا نستطيع شراء جهاز جديد..."

ضمّت سلمى يديها بقوة، كانت تسندُ نفسها بهذه الطريقة يومَ أنْ غابَ عنها السندُ، شعرت أنّ صوت زوجة عمها يُغلق عليها مجرى التنفس، ولكنّها بقيت ثابتة واستمعت بأدب لبقية الكلام الذي تعرفه وسمعتْه كثيرا. 

-" الحل يا سلمى أنْ ترسلي لمعلماتك، سمعتُ أنهم يساعدون مَن لا يستطيع، أخبريهم أنكِ يتيمة وليس معك جهاز وأنّ حالتنا صعبة جدًا، وهكذا ستحصلين على مساعدات مالية، وأنا سأرتبُ لكِ أمورك كلها." 

غمامةٌ بيضاء حجبتِ الرؤيةَ عن سلمى، كان الضبابُ يملأ عينيها ولسانها ثقيلة جدا لا تكاد تقوى على تحريكها.. 

ردّت باستسلام وبصوت مبحوح:" طيب.. "

... 

كانت سلمى تُنفّذ تخطيطات زوجة عمها، وكانت فعلا تحصلُ على مساعدات من معلماتها رحمةً وشفقة بها.. 

لم يخرج الحاسوبُ من غرفتها، فقد كانت سارة تستخدم آيباد ويؤدي الغرض.

مضت أسابيع والمحاضرة الصباحية تُعاد كلّ يوم، وسلمى تتحركُ مثل الجندي المأمور الذي لا يملكُ مخالفة الأوامر، كانت تشعر أنّ فؤادها هواء، خالٍ من كُل شعور، حتى أنها بدأتْ تعتاد على الأمرِ ولم تَعدْ تُحسّ بالقلق مثل السابق.. 

وفي ليلة بَدت هادئة وصلت رسالةٌ إلى سلمى عبر بريدها الإلكتروني، يبدو أنّها من إحدى المعلمات تسألها عن أحوالها ودراستها وتسألها عن بعض تفاصيل حياتها وسكنها.. 

لم تك سلمى تتحدثُ كثيرا عن نفسها، اعتادت أنْ تكون منزوية بنفسها عن الآخرين ولم تعرفْ كلمات الاهتمام.. 

لمعت عيناها لهذه الرسالةِ الحنونة، خرجت منها تنهيدةٌ لم تعلم سرّ انبثاقها لكنّ شعورًا خفيًا بالراحةِ تسللَ إلى خلاياها. 

قرأت اسمَ المعلمةِ مرارا، كانت حقا تُحب تلك المعلمة، شعرت بأصابعها تحكها وعقلها يؤلمها، هناك رغبة جامحة تدعوها للكتابة، وهذا الليلُ الموسوم بالوحدةِ يحرضها.. 

اقتربتْ من لوحة المفاتيح بلهفةِ طفلٍ وجدَ لعبةً جديدة يكتشفها، ضغطت على زر إنشاء، ولأولِ مرة تنتبه إلى فتنة الصفحة التي أمامها، صفحةٌ بيضاء فارغة تشتاقُ إلى الامتلاء.. 

شرعت سلمى بالكتابة، كانت تشعرُ بأنّ أصابعها تنزف، تنزفُ بحروف ضاقَ بها السجنُ فهربت إلى الحرية، كانت الكتابة تمدّ لها يدَ الخلاصِ وتطببها مِن كآبتها بعد أن أخضعتها لتنويم مغناطيسي، مضت ساعة وسلمى تكتب، لم تك بوعيها، خرجت من حدودِ عالمها الضيق، أخذها البُراقُ بعيدا إلى سماءٍ رحبة دافئة. 

توقفت عن الكتابة، كانت تلهثُ ولا تدري ماذا كتبت، داهمتها مشاعرُ مختلطة، أرادت أنْ يزورها هذا الشعور كُل يوم، شعورُ الغرق في الكتابة وشعور الخفة بعدها، وبحذر قرأت ما كتبته:

"مرحبا، 

أنا سلمى، ابنة الاثني عشر ربيعا

فطمَتْني الحياةُ قبل الأوان، كنتُ فراشة تمرحُ وتطير في كل آن؛فسقطتْ على الأرض ونسيتِ الطيرانَ.. 

عندما كنتُ أبكي كثيرا لأجل الحصول على لُعبة، كانت أمي تُحذرني أنّ البكاءَ سيتعبكِ دون فائدة، لن تحصلي على ما تريدينه ببكائك هذا.

هذا ما حدث يا معلمتي، يبدو أنّني أسرفتُ في البكاء والصراخ ذلك اليوم؛ فخسرتُ كُلّ شيء، لم أحصل على ما أريده أبدا بعد ذلك اليوم.. 

تضرعتُ لصورةِ أُمي أنْ تعود، وعدُتها أنّي لن أبكي ثانية لكنها لم تعُد، أخذتْ أبي وذهبا إلى مكان لا أعرفه ولم يخبرني أحدٌ عن طريقه، كنتُ أحسبُ أنّ الخرائطَ الحمراء في عينيّ ستدلني على الطريق لأعود إليهما، لأعودَ لأَصْلي، ولكن لم تزدني تلك الخرائط إلا تيهًا. 

أنا الآن أسكنُ مع عمي وزوجته وبناتهم، يطعمونني ويلبسونني، غرفتي جميلة ولكنْ لم أشعر بالاهتمام إلا من هذه الغرفة وجدرانها وفراشي والقصص القليلة التي أقرؤها.. 

بدأت ملامحُ التشوه تظهرُ على قلبي، خفتُ حينها ثم لم أكترث؛ فقدْ كانت زوجة عمي تأمرُني بأنْ أتوسلَ إلى معلماتي الطيبات من أجل مساعدات مالية لشراء جهاز حاسوب لي، لأنني يتيمة كما تقول.. 

لم أفهم جيدًا لِمَ كُل هذا، فحاسوبي معي ولم يأخذه أحد، تغاضيتُ لأنّني اعتدت الخضوعَ دون سؤال فكنتُ أعطيها ما أحصل عليه، شعرتُ بالغرابة وأنا أفعل هذا بداءة الأمر؛ ولكنهم أقنعوني ألّا بأس في هذا، وهو لمصلحة دراستي. 

أستاذتي الغالية، رسالتك أيقظتْ شعورًا قديمًا في داخلي، لم أشعر به منذ سنتين؛ فشكرًا لكِ"

سلمى



#تمت


---------------------------

ملاحظة: قصة زوجة العم التي تستغل ابنة أخ زوجها - التي يكفلونها- لطلب المساعدات من المعلمات من أجل شراء الأجهزة للتعلم عن بُعد - وهم في حالٍ يسيرة- واقعة حقيقية حدثت في إحدى الولايات، وتم كشفهم بعد مدة. 

أمّا التفاصيل الأخرى فهي محض خيال ولا علاقة لها بالواقع أبدا. 


ميعاد الحارثية









بين طوفان ونفق

         بين طوفان ونفق يسيل طوفان من الدمع من أعيني الخائفة المترقبة وأنا لا أكاد  أغفو متمتمة بدعاء الاستوداع لأهل غزة، حتى يبدأ الرعب يطا...