السبت، 12 ديسمبر 2020

يُتمٌ مفضوح

 

                             *يُتمٌ مفضوح*

خرائطُ حمراءُ تسبحُ في عينيها، تفحصتها سلمى وهي واقفةٌ أمامَ مرآتها، تذكرتْ أنها لم تترك الحاسوب منذ نهضتْ..

تمتمت لنفسها متأففة:" متى نعودُ إلى المدرسة؟ هلكنا من التعليم عن بُعد وذبلت أعيننا وقلوبنا".

قررتْ إغلاقَ كُل شيء والاستسلامَ للنوم ولكنّ قرعَ قلبها الذي شاخ طفلا أبى عليها أن ترتاح.. 

رأسها مُمتلئ بالدروس والأصوات والصور، نفضت رأسَها لعلّ شيئا من هذه المنغصات يسقط ويفكها. 

ساقتها الأفكارُ إلى تلك الليلة الظلماء عندما كانت في الصف الرابع ووجدت نفسَها فجأة مُحاطةً بالنواحِ والأنين، لم تستوعبْ جيدا ما يحدث، كانت عيونها شاخصةً تنظرُ إلى الوجوه المكلومة.. 

تحاولُ أن تلفتَ انتباه أي أحد لعله يشرح لها، "أين أمي لتحميني في حضنها من هؤلاء النسوة؟ إنهنّ يخفنني" فكرتْ بقلب طفل بلغ به الرعبُ أقصاه. 

تساقطت دموعُها سراعًا وطفقت تنادي والدتها:" أمي أمي" 

راحتِ العيون تنصبُّ عليها وتزيدها هلعًا، ألجمتها فكرةُ أنها كلما نادت أمها أكثر زاد النواحُ وكادت الأنظارُ المشفقة تلتهمها.. 

رأت من بعيد زوجةَ عمها قادمة نحوها وهي تكفكفُ الدمعَ، أمسكتْ بيدها وأدخلتها في غرفة مع بنات عمها.. 

لم يشرح لها أحدٌ أبدا ماحدث، ولم يعُدْ حضنُ أمها واختفى صوتُ أبيها، لم تجد بعد ذلك اليوم إلا نظرات الشفقة وهمسات تصفها باليتيمةِ التي مات والداها في حادث. 

مضت سنتان وما زال النداء يترددُ في غرفتها كُل يوم، كانت تتكورُ على نفسها كُل ليلة وتتذكرُ صورةَ الجنين الذي رأته في كتاب بتعليق:"جنين في بطن أمه"، كَم تمنت أن تكون مكانه! 


أيقظها من أفكارها وقعُ أقدامٍ قُرب غرفتها، أغلقت عينيها بقوة وتظاهرت بالنوم، ليست مستعدة لسماعِ الخُططِ التي تُلاحقها.. 


طلعَ الصباح وكان لابد أن تلبس سلمى لَبوسَ المجتهدِ القوي الذي تستر به هشاشتها وكوابيسها.. 

سلّمت على عمها وزوجته وتناولت طعامها بهدوء، كانت يدها ترتجفُ وهي ترى نظرات زوجة عمها التي تحاولُ أنْ تتقرب منها هذه الأيام، ولا حيلةَ لها إلا المسايرة والطاعة. 

استأذنَ العمُ للذهاب إلى العمل، رفعت سلمى عينيها ترجوه البقاءَ بلسانٍ جامدة وقلبٍ وجل. 

اقتربتْ منها زوجةُ عمها ووضعت يدَها على كتفها وهي تسألها عن ليلتها ودروسها ومذاكرتها.. 

-" ما شاء الله يا سلمى، جميع المعلمات يثنين على اجتهادك وتفوقك، يبدو لي أنكِ طالبة محبوبة من معلماتها" 

- أجابت سلمى بارتباك وصوت خفيف:" الحمد لله" 

-" لقد كبرتِ يا سلمى وأنتِ الآن في الصف السادس والحقيقة أنّ طلبات المعلمات لا تنتهي وتورطنا بهذا التعليم الإلكتروني، من أين لنا أن نوفّر لكِ ولبناتي أجهزةً وكُلّ واحدة معها دروسها وتكاليفها"

كانت سلمى واجمة تكادُ تخترقُ الصحنَ بنظرتها الثابتة الثاقبة، إنها تعرف جيدا إلى ماذا ترمي زوجة عمها.. 

-" اسمحي لي يا سلمى أنْ أأخذَ الحاسوبَ لأنّ سارة تحتاجه  لحصصها المتزامنة كل يوم"

شعرتْ سلمى بالورطة، تخيلت نفسَها في قفص يضيق عليها وهي عاجزة، تحمحمت واصطنعت ابتسامة باهتة:"لا بأس يا عمتي، بإمكان سارة أخذُ الحاسوب" 

-" لكنني أهتمُ لمصلحتكِ أيضا يا سلمى، ولا يمكنني ترككِ هكذا، ولكنْ أخبرتك عن الوضع ونحنُ الآنَ في زمن التقشف ولا نستطيع شراء جهاز جديد..."

ضمّت سلمى يديها بقوة، كانت تسندُ نفسها بهذه الطريقة يومَ أنْ غابَ عنها السندُ، شعرت أنّ صوت زوجة عمها يُغلق عليها مجرى التنفس، ولكنّها بقيت ثابتة واستمعت بأدب لبقية الكلام الذي تعرفه وسمعتْه كثيرا. 

-" الحل يا سلمى أنْ ترسلي لمعلماتك، سمعتُ أنهم يساعدون مَن لا يستطيع، أخبريهم أنكِ يتيمة وليس معك جهاز وأنّ حالتنا صعبة جدًا، وهكذا ستحصلين على مساعدات مالية، وأنا سأرتبُ لكِ أمورك كلها." 

غمامةٌ بيضاء حجبتِ الرؤيةَ عن سلمى، كان الضبابُ يملأ عينيها ولسانها ثقيلة جدا لا تكاد تقوى على تحريكها.. 

ردّت باستسلام وبصوت مبحوح:" طيب.. "

... 

كانت سلمى تُنفّذ تخطيطات زوجة عمها، وكانت فعلا تحصلُ على مساعدات من معلماتها رحمةً وشفقة بها.. 

لم يخرج الحاسوبُ من غرفتها، فقد كانت سارة تستخدم آيباد ويؤدي الغرض.

مضت أسابيع والمحاضرة الصباحية تُعاد كلّ يوم، وسلمى تتحركُ مثل الجندي المأمور الذي لا يملكُ مخالفة الأوامر، كانت تشعر أنّ فؤادها هواء، خالٍ من كُل شعور، حتى أنها بدأتْ تعتاد على الأمرِ ولم تَعدْ تُحسّ بالقلق مثل السابق.. 

وفي ليلة بَدت هادئة وصلت رسالةٌ إلى سلمى عبر بريدها الإلكتروني، يبدو أنّها من إحدى المعلمات تسألها عن أحوالها ودراستها وتسألها عن بعض تفاصيل حياتها وسكنها.. 

لم تك سلمى تتحدثُ كثيرا عن نفسها، اعتادت أنْ تكون منزوية بنفسها عن الآخرين ولم تعرفْ كلمات الاهتمام.. 

لمعت عيناها لهذه الرسالةِ الحنونة، خرجت منها تنهيدةٌ لم تعلم سرّ انبثاقها لكنّ شعورًا خفيًا بالراحةِ تسللَ إلى خلاياها. 

قرأت اسمَ المعلمةِ مرارا، كانت حقا تُحب تلك المعلمة، شعرت بأصابعها تحكها وعقلها يؤلمها، هناك رغبة جامحة تدعوها للكتابة، وهذا الليلُ الموسوم بالوحدةِ يحرضها.. 

اقتربتْ من لوحة المفاتيح بلهفةِ طفلٍ وجدَ لعبةً جديدة يكتشفها، ضغطت على زر إنشاء، ولأولِ مرة تنتبه إلى فتنة الصفحة التي أمامها، صفحةٌ بيضاء فارغة تشتاقُ إلى الامتلاء.. 

شرعت سلمى بالكتابة، كانت تشعرُ بأنّ أصابعها تنزف، تنزفُ بحروف ضاقَ بها السجنُ فهربت إلى الحرية، كانت الكتابة تمدّ لها يدَ الخلاصِ وتطببها مِن كآبتها بعد أن أخضعتها لتنويم مغناطيسي، مضت ساعة وسلمى تكتب، لم تك بوعيها، خرجت من حدودِ عالمها الضيق، أخذها البُراقُ بعيدا إلى سماءٍ رحبة دافئة. 

توقفت عن الكتابة، كانت تلهثُ ولا تدري ماذا كتبت، داهمتها مشاعرُ مختلطة، أرادت أنْ يزورها هذا الشعور كُل يوم، شعورُ الغرق في الكتابة وشعور الخفة بعدها، وبحذر قرأت ما كتبته:

"مرحبا، 

أنا سلمى، ابنة الاثني عشر ربيعا

فطمَتْني الحياةُ قبل الأوان، كنتُ فراشة تمرحُ وتطير في كل آن؛فسقطتْ على الأرض ونسيتِ الطيرانَ.. 

عندما كنتُ أبكي كثيرا لأجل الحصول على لُعبة، كانت أمي تُحذرني أنّ البكاءَ سيتعبكِ دون فائدة، لن تحصلي على ما تريدينه ببكائك هذا.

هذا ما حدث يا معلمتي، يبدو أنّني أسرفتُ في البكاء والصراخ ذلك اليوم؛ فخسرتُ كُلّ شيء، لم أحصل على ما أريده أبدا بعد ذلك اليوم.. 

تضرعتُ لصورةِ أُمي أنْ تعود، وعدُتها أنّي لن أبكي ثانية لكنها لم تعُد، أخذتْ أبي وذهبا إلى مكان لا أعرفه ولم يخبرني أحدٌ عن طريقه، كنتُ أحسبُ أنّ الخرائطَ الحمراء في عينيّ ستدلني على الطريق لأعود إليهما، لأعودَ لأَصْلي، ولكن لم تزدني تلك الخرائط إلا تيهًا. 

أنا الآن أسكنُ مع عمي وزوجته وبناتهم، يطعمونني ويلبسونني، غرفتي جميلة ولكنْ لم أشعر بالاهتمام إلا من هذه الغرفة وجدرانها وفراشي والقصص القليلة التي أقرؤها.. 

بدأت ملامحُ التشوه تظهرُ على قلبي، خفتُ حينها ثم لم أكترث؛ فقدْ كانت زوجة عمي تأمرُني بأنْ أتوسلَ إلى معلماتي الطيبات من أجل مساعدات مالية لشراء جهاز حاسوب لي، لأنني يتيمة كما تقول.. 

لم أفهم جيدًا لِمَ كُل هذا، فحاسوبي معي ولم يأخذه أحد، تغاضيتُ لأنّني اعتدت الخضوعَ دون سؤال فكنتُ أعطيها ما أحصل عليه، شعرتُ بالغرابة وأنا أفعل هذا بداءة الأمر؛ ولكنهم أقنعوني ألّا بأس في هذا، وهو لمصلحة دراستي. 

أستاذتي الغالية، رسالتك أيقظتْ شعورًا قديمًا في داخلي، لم أشعر به منذ سنتين؛ فشكرًا لكِ"

سلمى



#تمت


---------------------------

ملاحظة: قصة زوجة العم التي تستغل ابنة أخ زوجها - التي يكفلونها- لطلب المساعدات من المعلمات من أجل شراء الأجهزة للتعلم عن بُعد - وهم في حالٍ يسيرة- واقعة حقيقية حدثت في إحدى الولايات، وتم كشفهم بعد مدة. 

أمّا التفاصيل الأخرى فهي محض خيال ولا علاقة لها بالواقع أبدا. 


ميعاد الحارثية









الخميس، 27 أغسطس 2020

*بين الحرية والنهي عن المنكر*

 *بين الحرية والنهي عن المنكر*


تتجاذب المعاني الحقوق ولكلّ معنى جيش يحارب عنه، وقد طالت حربٌ بين فئتين حتى كاد يكون السلم شاذا بينهما.

ومما يوجع الفؤاد أنّ هذه الحرب قائمة بين مسلمين عابدين لرب واحد ومتبعين لشرع واحد.

كان الحبلُ متينا بين الحرية والنهي عن المنكر، ولكن كثرة النزاع أرهقته حتى كاد يكون أهون من الشعرة عند بعضهم.

وهنا سنعيد لكُل مفهوم حقوقه البيّنة..

تُلزمنا الحرية ألّا نتدخل في شؤون الآخرين، وهذا الأمر من صلب الدين، وثقافة كادت تندثر عن كثير من الناس. ولكن أي حرية هذه؟ الحرية التي لا تضر أحدا وليس بها منكر، فأنتَ لا دخل لك بمهنة الشخص، بعدد أولاده، بشكل بيته، بطوله، ودراسته، بأكله وشربه ما دام حلالا؛ فقف ولا تتعد خصوصيات الآخرين بأسئلتك واستفهاماتك وتوجيهاتك.

متى نتدخل؟ عندما نرى مُنكرا فنستجيب لأمر الله ورسوله بمحاولة تغييره، وهنا تبيان لكُل الدعاوي التي تحاول أن تزعزع أركان إنكار المنكر في حياتنا والتي ستلاقيها عندما تصدع بالحق.

⚡*الشخص حُر، لا دخل لك بحياته، اهتم بنفسك*

يجب أنْ نعي أنّ الإسلام جاء بروح الجماعة القوية المتماسكة، وهذه الجماعة لا تريد أنْ تترك فردا منها يحيد عن طريق السلامة، ولهذا جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الله تعالى يأمرنا بالتناصح والتوجيه، ثم نقول هذه حرية الشخص؟ 

كما أنّه لا معنى لقول "دعوا الخلق للخالق"، لأن الخالق هو الذي أمرنا بإنكار المنكر. 

﴿وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ﴾

﴿يُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَيَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسارِعونَ فِي الخَيراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصّالِحينَ﴾

بماذا يُفسر الآيات الذين يُنكرون على الناس النصيحة؟

وكيف يصف القرآن الذين ينصرفون عن النصيحة ويخلطون الحق بالباطل؟ 

﴿كانوا لا يَتَناهَونَ عَن مُنكَرٍ فَعَلوهُ لَبِئسَ ما كانوا يَفعَلونَ﴾


﴿المُنافِقونَ وَالمُنافِقاتُ بَعضُهُم مِن بَعضٍ يَأمُرونَ بِالمُنكَرِ وَيَنهَونَ عَنِ المَعروفِ وَيَقبِضونَ أَيدِيَهُم نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم إِنَّ المُنافِقينَ هُمُ الفاسِقونَ﴾

إذن هذه الآيات تخبرنا أنّ النصيحة وإنكار المنكر واجب على الأمة؛ فاصدح بالحق مهما تلقيت من اللوم.


⚡*يُمكن أن يكون صاحب هذا الفعل أفضل من غيره، وقد يكون قلبه طاهر، وأنتم تتهمونه*

التركيز في النقاش منجاة، فإن نصحَ الناصحُ بترك التدخين مثلا، قيل له ربما هذا الشخص يصلي ويتصدق وطيب.

هل الناصح قال عكس هذا؟ هو ركّز على نقطة فلا نقتحم أسوار كلامه ونعمم قوله على كُل شيء. 

والأمر المهم في هذه الدعوى قوله تعالى:"أَفَتُؤمِنونَ بِبَعضِ الكِتابِ وَتَكفُرونَ بِبَعضٍ فَما جَزاءُ مَن يَفعَلُ ذلِكَ مِنكُم إِلّا خِزيٌ فِي الحَياةِ الدُّنيا وَيَومَ القِيامَةِ يُرَدّونَ إِلى أَشَدِّ العَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعمَلونَ﴾

شرع الله شامل لكُلّ حياة الإنسان، وليس للإنسان أن يختار ترك شيء وفعل شيء، لأن هذا عين اتباع الهوى ولا يُغني عنه شيئا، فمَن فعل الكبائر وأصرّ على الصغائر لن ينفعه شيء، وإن مشى الناس بعقيدة الشمولية والتكامل في ترك كل السيئات لتطهرت الأرض. ونحن نقول هذا الكلام إجمالا ولا نحكم على الأشخاص لأن الحكم بيد الله، وما علينا إلا البلاغ المبين. 

⚡* هذا الشخص أفضل منك، وانظر لعيوبك*

يجسّد بعضهم مقولة:" خير وسيلة للدفاع الهجوم".. 

عندما يُنكر الإنسان المنكر فلا يعني بهذا أنه أفضل من غيره أو أنه خال من الأخطاء، فلا دخل للأمرين ببعضهما؛ ولا معنى لقولك:"اهتم بنفسك"، لأن هذا موضع نصيحة معينة وليس موضع سرد الاهتمام بالنفس. 

⚡*هناك ناس ملتزمة في الشكل لكن تجدها أسوأ الخلق*

الهرب من أخطائنا باتهام الآخرين لن ينفعنا، هذه المقولة قد تكون حقيقية، وأنت إن رأيت مُنكرا واضحا من هذا الشخص انصحه ووجهه حتى وإن كان ملتزما بالمظهر. 

ولكن نحن نأخذ بظاهر الأمور، فليس من حقنا اتهام الآخرين بالتوقع، بل ننصح على المنكر الذي نراه أمامنا فقط. 


وعلى الناصحين أنْ يُحسنوا النُصح، ولا يستخدموا أساليب التهكم والسخرية، وليقولوا التي هي أحسن، ولا يلتفتوا لأي صراخ يقف في وجه كلماتهم ما داموا أخلصوا وأحسنوا. 



ميعاد الحارثية 

الأحد، 9 أغسطس 2020

شوق



تراءى لي جدي في المنام، كان يقف كحارس على دكانه القديم وخلفه البيت الذي لعبنا فيه طويلا وغاب من الذاكرة..

هل تتعمد الذاكرة إلقاء بعض الصور من قاربها لتتخفف بحملٍ جديد؟

كنتُ أهتف لكَ بحماس الطفل الذي عاد والده بعد طن من الدموع المسكوبة: انظر انظر، ذاك جدي.

رفعتُ صوتي عاليا لعله يلتفت لي:"أنا ميعاد، أو عزة إن شئت يا جدي، انظر لم أعد أنزعج من الاسم"

لم يلتفت، كان قد نسيني مثل أشياء كثيرة مرت في حياتي.

لعلي كنتُ سأخبره أنك أنت أيضا تخترع لي الأسماء الكثيرة؛ فأتذكر بها بكاء الطفلة وهي تدافع عن وجودها، كانت تخشى أن تُسلب من نفسها، فما تقيمه الأسماء أعمق مما تتصوره عقولنا القاصرة.

ألم تجرب يوما أن يخفق قلبك عند كُل ذكر لاسم حبيبك؟ ليس بالضرورة أن يكون هو المقصود حتى تحس بالانتماء إلى الحروف المصفوفة بإتقان وبجمال لم يسبق له مثيل..

تفتخر الحروف أن كوّنت اسمك، وتنقاد إلى مكانها بكل طرب عازفة أنشودة تشد الروح قسرا..

قلتُ لك كثيرا أن اسمك جميل، ووضعتُ له نكهاتي الخاصة التي أخفيها عن الأبصار..

لعل لم يعد لقولي هذا معنى، شعرتُ بهذا في أوقات كثيرة فنزحتُ عنه إلى غيره.

ما زلتُ أرى اسمك جميلا، وما زلت ألتفت التفات المسلوب غنيمته عندما أراه في موضع آخر، وحسبي بأنهم إن سرقوا الحروف واصطفافها، لن ينفخوا الروح في داخلها..


حروفي تلهث، متعبة حد هذا الألم الذي يقطع صاحبتها والأنين الذي يغرقها والأحداق الباردة التي تشويها.

لم تخطط لقول هذا كله، فهي قبل أن تولد عرَجت إلى سماوات رسائلنا القديمة، إيه يا لذكريات هذه الأيام..

كنتُ أرتجفُ فيها ارتجافة المُسن وهو يسحب بعينيه دقائق العمر البطيئة، ويفرح لرنين الساعة القديمة، هاقد طوى الوقت بعض ثيابه؛ وسينكشف من تحتها بريق وجوههم..

إيه على تلك الأيام وأنا خاضعة أمام الهاتف أرجوه أن يسقيني برسالة تُريح ذاك الشوق لحظة وجيزة..

إيه على تلك الأيام وأنا لا أنام الليلة والليلتين ولا أكل من الطعام إلا قليلا، ولا أقوى على زوبعة الأفكار المميتة التي تهلكني بطوفانها الشديد.

إنْ لم تمتد إليّ يد من قبل، فهل ستمتد الآن؟


حروفي مشتتة، لم تعد تجد لها مستقرا، تتذبذب محتارة هل تأفل أم ما زالت هناك بقعة ترتضيها؟

أشعر بها هوجاء مشوهة، غارت معانيها في رمال العتاب وتوشحت سيماها بغلاف الضعفاء..

أتدري ما يمرضها؟

أنها طافت حقول الأنام وجمعت أبهى صنوف الورد ولكن عندما نثرته في وجوه الأحباب استحال شوكا، وكان للشوك صدى يرتد على جَنانِها..

ذاك الجَنان الذي تمنّى أن يُسلخ ليكشف عن جوهره، لتشع مقاصده وتُرى رأي العين..

فيا لوجع المقاصد الحسنة عندما تُردم بتراب العقاب.

سلامٌ على حُبّ لم يمل، وعلى حروف لم تهدأ، وعلى قلبٍ أبت الأيام إلا أن تسكنه في وطن الوحدة، وعلى ألمٍ أبى إلا أن يقبع في ضفافي..

سلامٌ على الشغف الميت، والصدر الحَرجِ  والتيه من فقدان المعنى. 



الأربعاء، 5 أغسطس 2020

فلسفة حزن مجهول



أيها الصديق
إنّ للحزن عباءة سحرية يندس تحتها ليتسلل خفية إلى القلوب المهجورة، إنّه يُحب البقعة الرمادية التي تتسع بداخلك كاتساع بقعة الحبر الذي ألقيته بإهمال ولم تزره وقتا طويلا.
قد تتخيل يا صديقي أنّ للحزن أنيابا، وبشاعة ترتجف منها تمتمات الفرح فتهربُ بجلدها لتذرك وحيدا في أرض المواجهة..

لكنني أراه - يا صاحبي- غير هذا ، أُبصر في الحزن طفلا تائها، تتقاذفه أمواج الغربة.. 
زارني يوما وفي عينيه ذبولُ المتسكعين في شارع الضياع، يتلفت خجلا بحثا عن سبب لوجوده بجانبي.. مثلَ خجلك يا صديقي عندما أخطأت في صف الجغرافيا وأرعبك وجودُ خريطة مجهولة، خفتَ من أن تُسلب من وطنك..

في إحدى الصباحات نهضت وقد تلبسني مَسٌ من الحُزن المجهول، اختنقت أصوات العصافير، وتنقب وجه الصباح..
حسبتُ  بادئ الأمر أنّ الكلمات كانت تمزح معي باختفائها المفاجئ، كنتُ أفتح الأبواب بحثا عنها، الباب تلو الباب ولكن كان الفراغ هو الوحيدَ الذي يقابلني، كان كبيرا جدا ليمتص كُل الكلمات ويلقيَها في غياهب الصمت المنبوذ..
كنتُ ألقى نظرات العتاب بعين باردة وقلب جامد، وقد تملكني الحذر من الاقتراب من أي شيء، فاستجابت الأشياء مبتعدة بأقدام الريبة واللوم.
وحدي كنتُ أشعر بالقيود التي تغتال حركتي، وترسم أفكارا تطن في عقلي كطنين الذباب..
أردتُ المقاومة، فكرتُ في أماكن كثيرة أذهب إليها، ماذا لو كان البحر قريبا منا؟ ألم يعتد أن يُلقى بحجارة الهموم فيبتلعها ويُهديَنا الزرقة؟ وحده البحر لا يكترث للكلمات، يرضيه صمتك وحديثك، لا يشترط أمرا لاحتوائك. 
ماذا لو نبتت بجانبنا حديقة من الورد؟ كنتُ سأتنفس شذاها غير آبهة بالأسئلة الممنوعة التي تراودني، إنّ شذا الزهور كجهاز أكسجين يُعيد للحياة توازنها..
ماذا لو هربت الكُتب من مكتبتي والتفّت حولي تُنشد أهازيج الخلاص؟ 
ماذا لو فهم الإنسانُ الإنسانَ؟ 
... 
ميعاد

بين طوفان ونفق

         بين طوفان ونفق يسيل طوفان من الدمع من أعيني الخائفة المترقبة وأنا لا أكاد  أغفو متمتمة بدعاء الاستوداع لأهل غزة، حتى يبدأ الرعب يطا...