الأحد، 3 ديسمبر 2023

بين طوفان ونفق

 


       بين طوفان ونفق

يسيل طوفان من الدمع من أعيني الخائفة المترقبة وأنا لا أكاد  أغفو متمتمة بدعاء الاستوداع لأهل غزة، حتى يبدأ الرعب يطاردني، الصواريخ تتساقط والدماء بحمرتها تنطلي على جفاف الأرض والصرخات تترى، فأنهض بهلع مما داهمني وأمسك قلبي لئلا يقفز من مكانه من هول ما شاهده في منامه.

ثم تلمع غزة في قلبي، - التي ما غادرته قط- وأتخيل أهلها وهم يعيشون ما أرعبني حقيقة لا حُلما، فيسيل الطوفان من عيني مرة تلو المرة وأخشى أن يُغرقني ويرديني تحت كومة الركام فلا أجد منه مفزعا، فأتمالك نفسي وأستمسك بألواح ودُسر وأنا أرى الغرقى يستصرخون من حولي.

ومثلما جاء الطوفان لينقذ نبي الله نوح من بطش المفسدين، جاء طوفان الأقصى لينقذنا من غفلتنا ولهونا وسباتنا.

يملأُ قلبي شعور بالفقد كلما سمعت عن شهيد جديد، أبكي عليه وأذكر نفسي بكرامة الإنسان، أيها الشهيد، أنت لستَ رقما بل  نجما أضاء الطريق الدامس لأمة تائهة.

أعجبُ من نفسي وأنا أداري شعور الفقد في قلبي، فرغم مرارته إلا أنني أخشى فقدانه كذلك!

يرسم الجهاد والمجاهدون في قلبي طيف رسولنا الكريم، حبيبنا المجاهد الذي سالت دماؤه لأجل هذا الدين، وهو يردد علينا:

"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". 

إن لم يصبك السهر والحمى يا قلبي لمصاب أخيك المسلم فاعلم أنك ميّت، فلا تبرح عن ميدان التوجع، ولا تبرح عن ترقب النصر.

تُربكني صرخات الغرقى بهذا الطوفان، تربكني غفلتهم عن غرقهم وبذلهم لإنقاذ أنفسهم، يستمسكون لآخر رمق لهم بالتثبيط ولوم أهل الجهاد ومقارعة الحق بأوهام يحسبونها سيوفا تطعن خاصرة هذه الأمة - التي اهتزت وأينعت بعد خشوع ويبس امتد لأعوام مريرة-، وما هي إلا وهم تربع في صدر الجاهل. 

وأنا أرى صراع الناجي والغريق أردد على نفسي دروس هذا الطوفان، دروسا علمني إياها ذاك الشهيد الذي لا تربطني به عائلة ووطن، بل رابطة الدين العظيمة، علمني إياها ذاك المقاوم الشريف الذي يقاتل بوعد الله وبقرآن ملأ جوفه حتى هان عليه الموت، علمتني إياها صرخة الثكالى الصابرة التي اجتازت كل الحدود لتستقر في نفوس الملايين، ولم أجد في حياتي معلما مثل أولئك المخلصين.

حفرتُ نفقا طويلا في داخلي، أنقذ به نفسي من فواجع الدهر وأفتش فيه عن حقيقة اليقين بداخلي، وسط جموع الصابرين الحامدين من أهل غزة.  

 ذاك النفق الذي لا تُبصره أعين الناس ويعلمه الله وحده، أُفتش فيه عن حقيقة السطح وأرسم فيه خططي لأجل الحرية، الحرية من السفاسف والتفاهات، الحرية التي يصل بها المؤمن إلى حقيقة الحياة، إلى الجنة.

ومن تلك الدروس تداعى كُل الزيف الذي يتنقب به الغرب، كُل الحضارات الواهمة التي سلبوا بها لُب عقول الشباب فتماهوا فيها، ولولا الطوفان الذي أذن به الله لما ذابت كُل تلك الزخارف الكاذبة.

ومن تلك الدروس تعالت نفوس الصغار وهممهم، أولئك الصغار الذين طالما ندبنا حظهم أنهم بعيدون عن قضيتهم بسبب السياسات التي لم تأل جهدا للقضاء على فكرة فلسطين، فألقت بها في غيابة الجُب ولم تتصور يوما أنّ الله مُخرج نوره ولو كرهوا.

نفوس الصغار التي امتلأت بفلسطين حتى فاضت لتكون أكثر حرصا من الكبار على قضيتها، وإذ أقف متعجبة من كلماتهم القوية ومن حرصهم البالغ الذي انبثق في شهر بعد تغييب لسنوات، أتذكر قوله تعالى:{وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى}

فالحمد لله الذي سخر الطوفان، وسخر المقاومة لتستفيق هذه الأمة.

ومن هذه الدروس التي لا تعد ولا تُحصى، بزوغ تلك الأخلاق الفطرية التي شوهتها المادية في نفوس البشر، فهبوا من كُل الأعراق يصارعون لأجل كلمة الحق من بعد أن وئدت أعواما طويلة، ومن كان يتوقع أن تخرج كل تلك الجموع الكثيرة لأجل فلسطين؟ فسبحان الحكيم الخبير

والأسى كُل الأسى أن تكون جموع غير المسلمين قد خرجت رجالا وركبانا لتصدع بكلمة الحق، بينما لا يعرف كثير من أهل الإسلام إلا التنديد والصرخات الخجلة، فاللهم استعملنا ولا تستبدلنا.

وأعظم نصر لذاك الطوفان أن ترى الناس يدخلون في دين الله أفواجا، "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"

فطوبى لمَن دعا الناس بدمه وأهله.

ومن تلك الدروس ما يعجز هذا القلب المكلوم عن بثها، فتبقى زفرة التقصير تدور في شغاف الصدر فيتصبر المؤمن من نفحتها الحارقة بالدعاء الكثير، وباليقين أن النصر لله ولأوليائه الصالحين، راجيا مغفرة الله وخائفا أن تكون منزلته منزلة الخوالف.

{وما النصر إلا من عند الله، إن الله عزيز حكيم}

وإنه لجهاد نصر أو استشهاد


ميعاد الحارثية 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بين طوفان ونفق

         بين طوفان ونفق يسيل طوفان من الدمع من أعيني الخائفة المترقبة وأنا لا أكاد  أغفو متمتمة بدعاء الاستوداع لأهل غزة، حتى يبدأ الرعب يطا...