الأحد، 4 أبريل 2021

خلف جدار الفقير١

  

#تحدي_الثلاثين
اليوم الرابع                                            
             خلف جدار الفقير1

كانت الساعة قد حانت، أسرعَ خالد بإدخال السيارة وهو يبصر والدته الرؤوم تتعرّق رغم الرياح الباردة التي تهبّ على القرية الساكنة، أمسك بيدها ليساعدها على الركوب وهو يطمئن أخويه بابتسامة مُغتصبة:"لا تقلقا، سيزيد فريق الشغب في البيت بقدوم أخيكم بإذن الله، دعواتكم ألّا يتغلى علينا ويتأخر بالخروج".

لم يُطل خالد الغياب في المشفى بعدما رفضوا بقاءه هناك من الطاقم، وإصرار والدته عليه للعودة إلى أخويه لأنّ الوقت تأخر وحتما سيكونا خائفَين.
كانت الهالات تُطوّق عيني خالد وهو يشعرُ أنّه يحمل ثقل الأرض في صدره، بصخبها وفوضاها وفسادها، لا تنفكّ تدور بداخله مُحدثة له زوبعة من القلق الطويل، أدمنت روحه غصص الهم المكتنز وما فتئ يُلسع بنيران الظلم وهو يتذكر ورقة التسريح التي أُلقت عليه كنقبلة أضنت مضجعه، لم يتجرأ أبدا على إخبار والدته بالأمر، بقي وحده يدور في حلقة مفرغة يبحث عن حل...
طوَى حبل أفكاره وهو يصل أمام باب البيت، شفط الهواء في صدره وكأنه يريد أن يستولي عليه، أن يتأكد أنّ الهواء لن يُسلب منه كما سُلبت وظيفته وقوّته..
دخلَ البيت بهدوء، كانت الساعة تُشير إلى التاسعة مساء، مسحَ على قلبه منظرُ أخويه وهما نائمين في الصالة، ويدُ بسام تُمسك يد حليمة، كم هي الأيام سريعة!
يتذكرهما يصعدان على كتفيه ليجري بهما جنب الساقية وهما يترجيانه ليسمح لهما بالغطس في الماء.
في هذه السنة سيبلغ أحمد الثالثة عشر من عمره وحليمة التاسعة من عمرها، لا خوف عليهما وأيديهما فوق بعضهما دائما.
تلاشت ابتسامته وسرحانه، تدّفق الدم سريعا في أجزائه، وهو يسمع طرقا قويا على الباب، استيقظ أخواه مرعوبين من شدة الطرق، شعرَ خالد بأنّه متيبس في مكانه، أصبح جمادا مثل العمود الذي يقابله، كان خائفا، خائفا جدًا، تمنّى أن يعود طفلا ويصرخ بملء فيه:"أنا خائف".

جرّته أقدامه وعيون أخويه الشاخصة نحو الباب، لا يدري كم تبتُّلٍ جرى على لسانه في ثوانٍ قليلة، فتحَ الباب وقد تحقق خوفه ووقعت الواقعة، الشرطة تقف عند الباب، يدا أخويه تمسكانه بشدّة والاستفهامات تكاد تلتهمهما، أحسّ بخواء شديد، كاد أن يتلاشى لولا شعوره بالقبضة القوية الحانية من جانبيه، نظرةُ أخته التائهة أصابته في مقتل، شعرَ بهما يكبران عشرين سنة في لحظة وهما يصرخان في وجه الشرطي المجفل قلبه، تجاوزا أعظم الجيوش قوة وهما يجذبانه بكل طاقتهما، يُقاتلان الجنود بأيديهما الصغيرة، وتوسلاتهما التي جعلت الجيران يخرجون..

بدا له أنّه يحلم، أراد أن يرفع يده ليقرص خده لعله يفيق، ارتبكت الأصوات في مسمعه ثم اختفت وبقي صدى صوت حليمة وهي ترمي بالحجارة على الشرطي وقد انقلب لونها أسود باهتا:"اتركوا أخي، لا تأخذوه، لا تتركنا يا خالد كما تركنا والدي، ارجع يا خالد، سيأتينا أخ صغير، أنتَ تُحب الصغار..."

أمسكَ رأسه بكلتا يديه، كان يشعر بروح أخته المُعذّبة تتلبسه، أراد أن يصرخ، أن يهتف بالقوم حوله:"أنا لستُ مجرما، بل مَن حرمني العمل هو المجرم" ولكنّ حلقه كان جافا، الأنّة تجرحه، رأى شاشة هاتفه تومض، كانت رسالة من والدته:
" بفضل الله رُزقنا مولودة، سنسميها أمل" 
ردّد الاسم طويلا:" أمل.. أمل.. وُلِدَ الأمل في يوم موتي، أي أمل يا أمي وهذه الدنيا ظلام في ظلام مستمر"
أراد أن يُمسك الهاتف ويسمع صوت والدته لكنّ الشرطي سبقه وسلبَه منه، كان قد وصل إلى المركز، إلى مردم المجرمين، وهاهو أصبح فردا منهم بسبب دَين أراد به أن يُطعم أسرته. 

كان كالمحمول في جنازة، مستسلم، لا يُقاوم، صامت لا يتكلم، يشعرُ بالبلل يجتاح جسده، ثيابه رطبة جدًا، وفي قلبه صقيع جمّد شعوره، تمعن في القضبان قبل أن يلجها، كان يبصرها وحوشا شريرة تقهقه عاليا، تُريد أن تلتهمه، شعرَ بها وهو يدخلها تخترق قلبه، جرح عظيم نزف في قلبه، تحسس الجدران اللزجة، تكوّر على نفسه في إحدى الزوايا،استولى عليه خيال والدته والخبر يصعقها بقسوة، كانت الأبصار المُركزة عليه تثقبه، تُعريه من قوته، فإذا به يصرفها بنحيبه الذي لا يدري كم استمرّ حتى نام.. 
#يُتبع

ميعاد الحارثية
٢١/ شعبان/١٤٤٢
٤/٤/


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بين طوفان ونفق

         بين طوفان ونفق يسيل طوفان من الدمع من أعيني الخائفة المترقبة وأنا لا أكاد  أغفو متمتمة بدعاء الاستوداع لأهل غزة، حتى يبدأ الرعب يطا...