تراءى لي جدي في المنام، كان يقف كحارس على دكانه القديم وخلفه البيت الذي لعبنا فيه طويلا وغاب من الذاكرة..
هل تتعمد الذاكرة إلقاء بعض الصور من قاربها لتتخفف بحملٍ جديد؟
كنتُ أهتف لكَ بحماس الطفل الذي عاد والده بعد طن من الدموع المسكوبة: انظر انظر، ذاك جدي.
رفعتُ صوتي عاليا لعله يلتفت لي:"أنا ميعاد، أو عزة إن شئت يا جدي، انظر لم أعد أنزعج من الاسم"
لم يلتفت، كان قد نسيني مثل أشياء كثيرة مرت في حياتي.
لعلي كنتُ سأخبره أنك أنت أيضا تخترع لي الأسماء الكثيرة؛ فأتذكر بها بكاء الطفلة وهي تدافع عن وجودها، كانت تخشى أن تُسلب من نفسها، فما تقيمه الأسماء أعمق مما تتصوره عقولنا القاصرة.
ألم تجرب يوما أن يخفق قلبك عند كُل ذكر لاسم حبيبك؟ ليس بالضرورة أن يكون هو المقصود حتى تحس بالانتماء إلى الحروف المصفوفة بإتقان وبجمال لم يسبق له مثيل..
تفتخر الحروف أن كوّنت اسمك، وتنقاد إلى مكانها بكل طرب عازفة أنشودة تشد الروح قسرا..
قلتُ لك كثيرا أن اسمك جميل، ووضعتُ له نكهاتي الخاصة التي أخفيها عن الأبصار..
لعل لم يعد لقولي هذا معنى، شعرتُ بهذا في أوقات كثيرة فنزحتُ عنه إلى غيره.
ما زلتُ أرى اسمك جميلا، وما زلت ألتفت التفات المسلوب غنيمته عندما أراه في موضع آخر، وحسبي بأنهم إن سرقوا الحروف واصطفافها، لن ينفخوا الروح في داخلها..
حروفي تلهث، متعبة حد هذا الألم الذي يقطع صاحبتها والأنين الذي يغرقها والأحداق الباردة التي تشويها.
لم تخطط لقول هذا كله، فهي قبل أن تولد عرَجت إلى سماوات رسائلنا القديمة، إيه يا لذكريات هذه الأيام..
كنتُ أرتجفُ فيها ارتجافة المُسن وهو يسحب بعينيه دقائق العمر البطيئة، ويفرح لرنين الساعة القديمة، هاقد طوى الوقت بعض ثيابه؛ وسينكشف من تحتها بريق وجوههم..
إيه على تلك الأيام وأنا خاضعة أمام الهاتف أرجوه أن يسقيني برسالة تُريح ذاك الشوق لحظة وجيزة..
إيه على تلك الأيام وأنا لا أنام الليلة والليلتين ولا أكل من الطعام إلا قليلا، ولا أقوى على زوبعة الأفكار المميتة التي تهلكني بطوفانها الشديد.
إنْ لم تمتد إليّ يد من قبل، فهل ستمتد الآن؟
حروفي مشتتة، لم تعد تجد لها مستقرا، تتذبذب محتارة هل تأفل أم ما زالت هناك بقعة ترتضيها؟
أشعر بها هوجاء مشوهة، غارت معانيها في رمال العتاب وتوشحت سيماها بغلاف الضعفاء..
أتدري ما يمرضها؟
أنها طافت حقول الأنام وجمعت أبهى صنوف الورد ولكن عندما نثرته في وجوه الأحباب استحال شوكا، وكان للشوك صدى يرتد على جَنانِها..
ذاك الجَنان الذي تمنّى أن يُسلخ ليكشف عن جوهره، لتشع مقاصده وتُرى رأي العين..
فيا لوجع المقاصد الحسنة عندما تُردم بتراب العقاب.
سلامٌ على حُبّ لم يمل، وعلى حروف لم تهدأ، وعلى قلبٍ أبت الأيام إلا أن تسكنه في وطن الوحدة، وعلى ألمٍ أبى إلا أن يقبع في ضفافي..
سلامٌ على الشغف الميت، والصدر الحَرجِ والتيه من فقدان المعنى.
ماشاء الله
ردحذفماشاء الله مقالاتك رائعة أستاذة ميعاد
ردحذف