الاثنين، 5 أبريل 2021

خلف جدار الفقير٢

        اليوم الخامس من #تحدي_الثلاثين 


                    تتمة: خلف جدار الفقير٢


فاضت أنّات الثكلى حتى دخلت كُل بيت فأوجعته، أُصيبت أم خالد في ظهرها، في ابنها البكر الذي اشتدت به من وعورة الحياة، وأشادت به في محافل الكرماء، سلبوه منها في غمضة عين، ألقوه بين المجرمين وهو أنقى من صفحة الثلج في صباحات الشتاء، لم تجد ما يؤنس فجيعتها إلا نحيبًا امتزج مع نحيب طفلتها.

أمّا أحمد وحليمة لم يمهلا الدمع ليجف من محياهما بل طَفِقا ينسجان الخطط ليل نهار ليُنقذا أخيهما من غيابات الظلام ويردّان إليه روحه وروح أسرته.

بدأت مؤونة البيت تنفد إلا من بعض الأغراض التي يأتي بها المواسون، وفي ليلة دامسة استطاعا اقتلاع بسمة خفيفة من وجه والدتهما وهما يطلعاها على خطتهما الاقتصادية التي اتفقا عليها..

كانت بسمة الفخر بتجلدهما، لكن كانت وراءها لجج من الوجع انبثق من عين الحرمان الذي باتوا يتقلبون فيه، فها هما أحمد وحليمة يتنازلان عن مصدر رفاهيتهما، عن التلفاز الذي عزما على بيعه، عن سالي التي لم يهجرا مشاهدتها حتى في مرضهما.

لم يك الاستغناء عن التلفاز كُل شيء فقد تحسسا الرعب الشديد الذي يُصيب والدتهما من مضي الأيام واقتراب آخر الشهر، مِن أين للمعوز أن يدفع فواتير الكهرباء والماء؟

أصدر الصغيران قرارا بالاستغناء عن الكهرباء قدر المستطاع، ووضعا جدولا للاستحمام لأفراد الأسرة على أن يستعينا بماء الفلج في غالب أوقاتهم، ويكتفوا بوجبة واحدة في اليوم.

لم تشعرهما والدتهما بأنّ مصيبة جاثمة على صدرها لن تتسع لها خططهم، هذه الطفلة التي في حجرها التي بدت ذاوية جدا ببشرة صفراء من فرط الجوع؛ فحليب الأم جففه الحزن قبل أن يجففه قلة الأكل، ومِن أين لها أن توفر لها الحفاظ والحليب وهي التي قد تعبت من تقليب الوسائل في رأسها.

وقد كتمت في نفسها فكرة ألقتها عليها جارتها، فلم تتقبلها نشوة الكرامة التي تجري في دمها. 

-"الجمعيات الخيرية مضغوطة جدًا وللأسف معها حالات كثيرة لن تستطيع مساعدتكم قريبا، ولكن معي لكِ حل سيكتب الله به خلاصكم بكل تأكيد" 

رفعت أم خالد وجهها الشاحب كشحوب الصحراء التي هجرها المطر، ودعَت الجارة بنظرة - مزدحمة باحمرار العينين- لتكمل كلامها. 

-"سنلتقط مقطعا لحليمة وهي تشرح حالكم وتدعو أصحاب الخير لمد يد العون، والتبرع لإنقاذ خالد من السجن، على الأقل سيبحث عن وظيفة خفيفة يعينكم بها بدلا من هذه الحيرة التي تتلبسكِ في كُل مرة أردتِ فتح مشروع ولم تجدي رأس مال تشتدين به" 

جرّت أم خالد خيبتها وخرجت سريعا من بيت جارتها، لم تتخيل أبدا أن تستسلم لهذا، هي الشامخة ستبقى هكذا وإن أطاح بها الموت. 


لم تغب تلك المعاناة عن خالد، كان يتقلب في سعيرها كُل ثانية، ينخره القلق على أسرته، نسيَ الظلام ونسيَ القضبان ولم يتوجه فكره إلّا شطر معاناتهم.

كان قد طلبَ أن يُسمح له بامتلاك دفتر لعله يشارك الحروف بعض أتراحه، في بعض الليالي كانت دموعه تملأ صفحة الدفتر قبل أنْ يحركَ سكونَ قلمه، وفي إحدى الأيام، باغته شوقٌ عظيم إلى والده، انتقلت رعشته إلى قلمه فانسكب الحبر:

"أبي العزيز، لن أزعجك بطلب قدومك فإني أخشى عليك دواهي هذا الدهر، لا أحسبُك تقوى على رؤية ابنك مُضرّجا بآلامه، تلتقمه الكوابيس كُل ليلة، يتكوّر على نفسه مشتاقا إلى حضنِ والدته، إلى الاختباء في رحمها الدافئ. 

تكفي دماء ابنك التي تسيل مدرارا لتغطي ما بقي من بصيص روح تجري في هذه الأرض. أُصبحُ ويصبح الدمع طارقا باب عيني، وحُرقة القلب تجابه صيف الديار. إنني أرثي نفسي فقد صرعتني الوحدة، وسلبتني قوتي وألبستني الوهن، لا أدري كم ستمهل صمودي حتى يتزعزع ساقطا على عرش كبريائي ومُحطِّمه.

إنني أتوجع كثيرا يا أبي، هبني إصبعا منك واحدة أحملها سلاحا في وجه هذا العذاب.

مُشتاقٌ إليكَ جدًا يا أبي."

في ليلة الثاني عشر من فبراير، أفاقت أم خالد على أنّات مخنوقة تنفثها طفلتها أمل، انقبض فؤادها وجرت نحوها فإذا بها تغلي من الحُمى، حملتها وهي تتضرع إلى الله أن يحميها، كانت الساعة تُشير إلى العاشرة، الجيران أطفأوا مصابيحهم، أحسّت أم خالد بالورطة، كيف ستوصل ابنتها إلى المشفى، لبست عباءتها وخرجت دون تفكير من البيت، تخطت الشارع القريب من البيت ثمّ أوقفت سيارة مارة.

رجلٌ كريم رثَى حالها وأوصلها إلى المشفى، أربكه وضعها وترك بصمة ألم في قلبه..


طلعَ الصباحُ ولم يك خالد يكترث له لولا أنّ مشاعره تهجع قليلا، سمعَ باب الزنزانة يُفتح في وقتٍ غير معتاد.

نظرَ إليه الشرطي بابتسامة بهية:" الضابط يُناديك يا خالد"

تعاصفت الاستفهامات في رأسه، وأحسّ بوجل من الاجتماع الغريب، دخلَ المكتب ورأى الضابط ومعه رجل غريب.

حيّاه الضابط بتهلل:" البشرى يا خالد، هذا الرجل سدّد دينك كُله ويريد أن يُعيدك بنفسه إلى والدتك"

غمامة سوداء ثقيلة انقشعت في عينيّ خالد وهو ينظر إلى الرجل، سقطت دموعه مدرارا، تخيّل أحمد وحليمة وهما يجريان لاحتضانه، ووالدته، كم اشتاق إليها! 

وإلى أمل التي لم يرها بعد.

اقتربَ من الرجل واحتضنه بقوة، كأنه حبيب طال انتظاره، تخيله والدَه، وقد جاء ليُنقذه.

كان الصباحُ مُشعًا جدًا على عيني خالد التي اعتادت ظلام القضبان، حكَى له الرجل ما حدث أمس وأنّه أخذ والدته إلى المشفى ثمّ بحثَ عن حالهم، حمدَ الله أنْ عرّفه عليهم.. 


كان خالد يحتضن سكك القرية بنظراته العميقة، يتنفس هواءها بعُمق، يشعرُ بالتنمل عندما يتخيل لقاءه بأهل بيته. حتى وصلا عند باب البيت، كان المكان مُزدحما جدا، تجمدت روح خالد، دخل البيت، ووقع بصره على والدته وهي تنتحب:

"ماتت أمل، مات الأمل يا خالد،

مات الأمل.. " 


#تمت


ميعاد الحارثية 

٢٢/ شعبان/ ١٤٤٢


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بين طوفان ونفق

         بين طوفان ونفق يسيل طوفان من الدمع من أعيني الخائفة المترقبة وأنا لا أكاد  أغفو متمتمة بدعاء الاستوداع لأهل غزة، حتى يبدأ الرعب يطا...